في 25 سبتمبر 1925، طُلب من أشهر ممثلي الحماية الفرنسية في المغرب مغادرة منصبه كمقيم عام بشكل فجّ. فلماذا وكيف خرج المارشال هوبرت ليوطي، الذي اعتُبر مهندس المشروع الاستعماري في الإمبراطورية الشريفة، من تاريخ المغرب عبر "الباب الصغير"؟
بعد أكثر من خمسة عشر يوماً على قبول باريس استقالته، يطأ المارشال ليوطي، الشخصية الرئيسية في الفصل الأول من الحماية الفرنسية بالمغرب، أرض المغرب للمرة الأخيرة. فعلى أرصفة ميناء الدار البيضاء، رافق موكب مهيب رحيل المقيم العام السابق بالرباط. وقد أُديت له التحية العسكرية، هو الذي رُقّي إلى رتبة مارشال فرنسا في فبراير 1921، قبل أن يركب على متن الباخرة "أنفا" التي نقلته آخر مرة – في حياته – عبر البحر الأبيض المتوسط.
وقد وصف أندريه موروا، أول كاتب سيرة لليوطي (1931)، الحفل بأنه "انتصاري وجنائزي"، وهو خاتمة لم يكن أحد يتصورها قبل أشهر قليلة. غير أن عاصفة عاتية في شمال المغرب قد قلبت كل شيء، بما في ذلك المارشال الذي كان يُعتقد أنه لا يتزعزع.
ورغم الهزيمة التاريخية للإسبان في معركة أنوال صيف 1921، التي جعلت قبائل الريف المتحالفة بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي تزلزل النفوذ الإسباني في منطقة الحماية، فإن هوبرت ليوطي لم يصب بالذعر. وحتى سنة 1924، كان المقيم العام من مكتبه في الرباط يصف الوضع بأنه "قضية الريف". وبالرغم من استخدامه لغة معتدلة، فإنه كان واعياً بالمخاطر المحدقة بالسياسة الاستعمارية الفرنسية، التي تعرض نموذجها للاهتزاز. ولم يُدق ناقوس الخطر إلا في ربيع 1925، حينما بدأ الريفيون يهاجمون القوات الفرنسية في وادي ورغة، حتى أنهم هددوا تازة بشكل جدي.
ورغم خسارة عدة مواقع، فإن القوات الاستعمارية الفرنسية صمدت في حصونها. وقد وصف ليوطي في مراسلاته الوضع بأنه "معجزة" و"نصر". لكن في باريس، اعتبر رئيس الحكومة ووزير الحرب بول بانليف أن سياسة المارشال قد فشلت. وقال في اجتماع لمجلس الوزراء حول المسألة الريفية: "الآن وقت الحرب". ومع تداول الصحافة الدولية لانتصارات قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي، كانت فرنسا بحاجة لإظهار قوتها واستعادة هيبتها. وعند ذكر الحرب، برز اسم واحد: فيليب بيتان.
في مطلع صيف 1925، كان المارشال بيتان، بطل فردان، مستعداً للتوجه إلى المغرب. وعندما حط في الرباط يوم 17 يوليو 1925، كانت مهمته مقتصرة على رفع تقرير عن الوضع العسكري في الريف. أما ليوطي، فلم يشعر أن قبضته على المغرب تتفلت، بل رأى في قدوم بيتان فرصة لتلبية مطالبه بتعزيزات عسكرية ضخمة. كما بدا بيتان مستعداً للتعاون معه، بينما ظل ليوطي قائداً للعمليات العسكرية ورئيساً عاماً للجيش بالمغرب. لكن "حرب المارشالات" لم تكن قد بدأت بعد.
غير أن شخصيتيهما الطاغيتين سرعان ما أظهرتا صراعاً أشبه بمعركة كبرياء. فقد روى موريس دوروزوا، الكاتب والمقرّب من ليوطي آنذاك، مشهداً بين الرجلين: "زار بيتان الإقامة في اليوم التالي وسأل المقيم العام ما إذا كان لا يزال يركب الخيل. فأخذه ليوطي إلى إسطبلات رائعة قيل إنها تضاهي إسطبلات البلاط الإسباني، ثم امتطى أحد جياده عارياً من السرج وقام بجولة سريعة وبديعة على المضمار. ثم نزل قائلاً: – دورك الآن يا سيدي المارشال. فأجابه بيتان: أنا مشاة". كان المغرب إذاً ضيقاً على مارشالين اثنين.
وعندما عاد بيتان إلى باريس لتقديم تقريره، كانت استراتيجية ليوطي لا تزال مطبقة، وهي تقوم على إنهاك قوات بن عبد الكريم. وقد حظيت، فيما يبدو، بموافقة كل من بيتان وبانليف. لكن شهر أغسطس حمل معه تطورات كبرى. ففي البرلمان الفرنسي، حمّلت أغلبية "الكتلة اليسارية" المقيم العام مسؤولية اتباع سياسة "أكثر من اللازم سياسية" في معالجة النزاع الريفي. وبمواجهة احتمال حرب واسعة، طالبت الرأي العام – المتأثر بالنزعة الاستعمارية – بسحق قوات بن عبد الكريم بسرعة. وحدهم شيوعيو الحزب الشيوعي الفرنسي جاهروا بتأييد استقلال "جمهورية الريف".
عند عودته إلى المغرب، توقف بيتان في الجزيرة الخضراء يوم 20 أغسطس 1925، حيث التقى بالديكتاتور الإسباني بريمو دي ريفيرا. وتوافقا على شن هجوم مشترك وضخم ضد الريفيين. وجمعت القوات الفرنسية والإسبانية حوالي 350 ألف جندي استعداداً لإنزال هائل في خليج الحسيمة. أما ليوطي، فقد علم بخبر إقالته من قيادة الجيش المغربي مباشرة من خصمه الكبير. فقد شهد دوروزوا المشهد في الدار البيضاء يوم 22 أغسطس 1925: "عند السابعة صباحاً، تصافح المارشالان وأُديت لهما التحية العسكرية، ثم ابتعدا قليلاً. فقال بيتان: – سيدي المارشال، ليس لدي إلا أخبار سيئة لأبلغها لكم".
فقد صدر أمر موقّع من بول بانليف ينص على أن "المارشال بيتان سيتولى القيادة العامة للقوات بالمغرب، وعلى المارشال ليوطي أن يضع تحت تصرفه كل الأفراد والمعدات التي يطلبها لإنجاز مهمته". وهكذا، فقد ليوطي السيطرة على العمليات العسكرية بالمغرب. وكان ذلك إهانة له دفعته لكتابة رسالة استقالة يوم 24 سبتمبر. وقال فيها: "اليوم يمكن القول بصدق إن الخطر قد زال، وإنه مع القوات المتواجدة على الأرض يمكن النظر إلى المستقبل بثقة. لذلك وبضمير مرتاح أطلب إعفائي من مهامي". وفي اليوم التالي، تم قبول استقالته.
توفي هوبرت ليوطي في 27 يوليو 1934 في قريته باللورين. ويروي جاك بينوا-ميشان، كاتب سيرته الآخر، أن آخر كلماته كانت لضابط مساعد كان يسهر بجواره: "في النهاية، لقد فشلت في حياتي". ولما ذكّره الضابط بإنجازه في المغرب، أجاب: "المغرب لم يكن سوى إقليماً من حلمي". كان لديه ما يكفي من الكبرياء وحب المسرح ليقول تلك الحقيقة العميقة، عن حلم انتهى فجأة قبل قرن من الزمان، في 25 سبتمبر 1925.
تعليقات
إرسال تعليق